فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأيضًا هذا الأمر مخصص بعموم {ما ملكت أيمانهن} [النور: 31] وعموم {الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} من قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} [النور: 31] الخ المتقدم آنفًا.
وقد روي أن أسماء بنت مرثد دخل عليها عبد لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنما خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها.
فنزلت الآية، يعني أنها اشتكت إباحة ذلك لهم.
ولو صحت هذه الرواية لكانت هذه الآية نسخًا لعموم {أو ما ملكت أيمانهن} وعموم {أو الطفل} لأنها تقتضي أنه وقع العمل بذلك العموم ثم خصص بهذه الآية.
والتخصيص إذا ورد بعد العمل بعموم العام صار نسخًا.
والأمر في قوله: {ليستئذنكم} للوجوب عند الجمهور.
وقال أبو قلابة: هو ندب.
فأما المماليك فلأن في عرف الناس أن لا يتحرجوا من اطلاع المماليك عليهم إذ هم خَول وتَبَع.
وقد تقدم ذلك آنفًا عند قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن} [النور: 31].
وأما الأطفال فلأنهم لا عناية لهم بتطلع أحوال الناس.
وتقدم آنفًا عند قوله: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} [النور: 31].
كانت هذه الأوقات أوقاتًا يتجرد فيها أهل البيت من ثيابهم كما آذن به قوله تعالى: {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} فكان من القبيح أن يرى مماليكهم وأطفالهم عوراتهم لأن ذلك منظر يخجل منه المملوك وينطبع في نفس الطفل لأنه لم يعتد رؤيته، ولأنه يجب أن ينشأ الأطفال على ستر العورة حتى يكون ذلك كالسجية فيهم إذا كبروا.
ووُجّه الخطاب إلى المؤمنين وجعلت صيغة الأمر موجهة إلى المماليك والصبيان على معنى: لتأمروا الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عليكم، لأن على أرباب البيوت تأديب أتباعهم، فلا يشكل توجيه الأمر إلى الذين لم يبلغوا الحلم.
وقوله: {الذين ملكت أيمانكم} يشمل الذكور والإناث لمالكيهم الذكور والإناث.
وأما مسألة النظر وتفصيلها في الكبير والصغير والذكر والأنثى فهي من علائق ستر العورة المفصلة في كتب الفقه.
وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} إلى قوله: {على عورات النساء} [النور: 31] فلا ينبغي التصدي بإيراد صورها في هذه الآية.
وتعيين الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوة الرجال والنساء وأوقات التعري من الثياب، وهي أوقات نوم وكانوا غالبًا ينامون مجردين من الثياب اجتزاء بالغطاء، وقد سماها الله تعالى: {عورات}.
وما بعد صلاة العشاء هو الليل كله إلى حين الهبوب من النوم قبل الفجر.
وانتصب {ثلاث مرات} على أنه مفعول مطلق ل {يستأذنكم} لأن مرات في قوة استئذانات.
وقوله: {من قبل صلاة الفجر} ظرف مستقر في محل نصب على البدل من {ثلاث مرات} بدل مفصل من مجمل.
وحرف {من} مزيد للتأكيد.
وعطف عليه {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء}.
والظهيرة: وقت الظهر وهو انتصاف النهار.
وقوله: {ثلاث عورات} قرأه الجمهور مرفوعًا على أنه خبر مبتدإ محذوف أي هي ثلاث عورات، أي أوقات ثلاث عورات.
وحذف المسند إليه هنا مما اتبع فيه الاستعمال في كل إخبار عن شيء تقدم الحديث عنه.
و{لكم} متعلق ب {عورات}.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من {ثلاث مرات}.
والعورة في الأصل: الخلل والنقص.
وفيه قيل لمن فقدت عينه أعور وعورت عينه، ومنه عورة الحي وهي الجهة غير الحصينة منه بحيث يمكن الدخول منها كالثغر، قال لبيد:
وأجَنَّ عورات الثغور ظلامها

وقال تعالى: {يقولون إنّ بيوتنا عورة} [الأحزاب: 13] ثم أطلقت على ما يكره انكشافه كما هنا وكما سمي ما لا يحب الإنسان كشفه من جسده عورة.
وفي قوله: {ثلاث عورات لكم} نص على علة إيجاب الاستئذان فيها.
وقوله: {ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} تصريح بمفهوم الظروف في قوله: {من قبل صلاة الفجر} وما عطف عليه، أي بعد تلك الأوقات المحددة.
فصلاة الفجر حد معلوم، وحالة وضع الثياب من الظهيرة تحديد بالعرف، وما بعد صلاة العشاء من الحصة التي تسع في العرف تصرفَ الناس في التهيؤ إلى النوم.
ولك أن تجعل بعدَ بمعنى دون، أي في غير تلك الأوقات الثلاثة كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23]، وضمير {بعدهن} عائد إلى ثلاث عورات، أي بعد تلك الأوقات.
ونفي الجناح عن المخاطبين في قوله: {ليس عليكم} بعد أن كان الكلام على استئذان المماليك والذين لم يبلغوا الحلم إيماء إلى لحن خطاب حاصل من قوله: {ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم} فإن الأمر باستئذان هؤلاء عليهم يقتضي أمر أهل البيت بالاستئذان على الذين ملكت أيمانهم إذا دعاهم داع إلى الدخول عليهم في تلك الأوقات كما يرشد السامعَ إليه قوله: {ثلاث عورات لكم}.
وإنما لم يصرح بأمر المخاطبين بأن يستأذنوا على الذين ملكت أيمانهم لندور دخول السادة على عبيدهم أو على غلمانهم إذ الشأن أنهم إذا دعتهم حاجة إليهم أن ينادوهم فأما إذا دعت الحاجة إلى الدخول عليهم فالحكم فيهم سواء.
وقد أشار إلى العلة قوله تعالى: {طوافون عليكم بعضكم على بعض}.
وقوله: {طوافون عليكم} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم طوافون، يعود على {الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم}.
والكلام استئناف بياني، أي إنما رفع الجناح عليهم وعليكم في الدخول بدون استئذان بعد تلك الأوقات الثلاثة لأنهم طوافون عليكم فلو وجب أن يستأذنوا كان ذلك حرجًا عليهم وعليكم.
وفي الكلام اكتفاء.
تقديره: وأنتم طوافون عليهم دل عليه قوله: {ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} وقوله عقبه: {بعضكم على بعض}.
و{بعضكم على بعض} جملة مستأنفة أيضًا.
ويجعل {بعضكم} مبتدأ، ويتعلق قوله: {على بعض} بحبر محذوف تقديره: طواف على بعض.
وحذف الخبر وبقي المتعلق به وهو كون خاص حذف لدلالة {طوافون} عليه.
والتقدير: بعضكم طواف على بعض.
ولا يحسن من جعل {بعضكم على بعض} بدلًا من الواو في {طوافون عليكم} لأنه عائد إلى {الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم} فلا يحسن أن يبدل منه بعض المخاطبين وهم ليسوا من الفريقين إلا بتقدير.
وقوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي مثل ذلك البيان الذي طرق أسماعكم يبين الله لكم الآيات، فبيانه بالغ الغاية في الكمال حتى لو أريد تشبيهه لما شبّه إلا بنفسه.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} في سورة البقرة (143).
والتعريف في {الآيات} تعريف الجنس.
والمراد بالآيات القرآن فإن ما يقع فيه إجمال منها يبين بآيات أخرى، فالآيات التي أولها {يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم} جاءت بيانًا لآيات {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم} [النور: 27].
وجملة: {والله عليم حكيم} معترضة.
والمعنى: يبين الله لكم الآيات بيانًا كاملًا وهو عليم حكيم، فبيانه بالغ غاية الكمال لا محالة. اهـ.

.قال الشعراوي:

ثم ينتقل السياق إلى سلوك يمسُّ المجتمع من داخله والأسرة في أدقِّ خصوصياتها، بعد أنْ ذكر في أول السورة الأحكام الخاصة بالمجتمع الخارجي، فيقول سبحانه: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم}.
تُعلِّمنا هذه الآية آداب الاستئذان داخل الأسرة المكوَّنة من الأبويْن والأبناء، ثم الأتباع مثل الخدم وغيرهم، والحق تبارك وتعالى يريد أن يُنشِّىءَ هذه الأسرة على أفضل ما يكون، ويخصّ بالنداء هنا الذين آمنوا، يعني: يا من آمنتم بي ربًا حكيمًا مُشرِّعًا لكم حريصًا على مصلحتكم استمعوا إلى هذا الأدب: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58].
معلوم أن طلب المتكلم من المخاطب يأتي على صورتين: فعل الأمر وفعل المضارع المقترن بلام الأمر، فقوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} [النور: 58] يعني: عَلِّموا هؤلاء أن يستأذنوا عليكم مثل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور: 33] يعني: استعفوا، لأن اللام هنا لام الأمر، ومثل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].
وهذا الأدب تكليف من الله تعالى يُكلِّف به كل مؤمن داخل الأسرة، وإنْ كان الأمر هنا لغير المأمور، فالمأمور بالاستئذان هم مِلْك اليمين والأطفال الصغار، فأمر الله الكبارَ أن يُعلِّموا الصغار، كما ورد في الحديث الشريف: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر».
فلم يُكلِّف بهذا الصغار إنما كُلِّف الكبار؛ لأن الأطفال لم يبلغوا بَعْد مبلغ التكليف من ربهم، إنما بلغوا مبلغ التكليف عندكم أنتم، لذلك أنت الذي تأمر وأنت الذي تتابع وتعاقب.
وأْمُرْ الصغير بالصلاة أو بالاستئذان لِتُربي فيه الدربة والتعود على أمر قد يشقُّ عليه حال كِبَره، إنما إنْ عوَّدته عليها الآن فإنها تسهل عليهم عند سِنِّ التكليف، وتتحول العادة في حقه إلى عبادة يسير عليها.
وشرع الله لنا آداب الاستئذان؛ لأن الإنسان ظاهرًا يراه الناس جميعًا ويكثر ظاهره للخاصة من أهله في أمور لا يُظهرها على الآخرين، إذن: فَرُقْعة الأهل والملاصقين لك أوسع، وهناك ضوابط اجتماعية للمجتمع العام، وضوابط اجتماعية للمجتمع الخاص وهو الأسرة، وحرية المرء في أسرته أوسع من حريته في المجتمع العام، فإنْ كان في حجرته الخاصة كانت حريته أوسعَ من حريته مع الأسرة.
فلابُدَّ إذن من ضوابط تحمي هذه الخصوصيات، وتُنظِّم علاقات الأفراد في الأسرة الواحدة، كما سبقت ضوابط تُنظِّم علاقات الأفراد خارج الأسرة.
ومعنى: {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} [النور: 58] هم العبيد الذين يقومون على خدمة بعض الناس وليس الأجير لأن الأجير يستطيع أن يتركك في أي وقت، أمَّا العبد فليس كذلك؛ لأنه مملوك الرقبة لا حريةَ له، فالمملوكية راجحة في هؤلاء، وللسيد السيطرة والمهابة فلا يستطيع أن يُفْلت منه.
{والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} [النور: 58] هم الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا مبْلَغ التكليف، ويقضون المصالح؛ فتراهم في البيت يدخلون ويخرجون دون ضوابط، فهل نتركهم هكذا يطَّلِعون على خصوصياتنا؟
وللخدم في البيت طبيعة تقتضي أن يدخلوا علينا ويخرجوا، وكذلك الصغار، إلا في أوقات ثلاثة لا يُسْمح لهم فيها بالدخول إلا بعد الاستئذان: {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر} [النور: 58] لأنه وقت متصل بالنوم، والإنسان في النوم يكون حُرَّ الحركة واللباس {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة} [النور: 58] وهو وقت القيلولة، وهي وقت راحة يتخفّف فيها المرء من ملابسه {وَمِن بَعْدِ صلاوة العشاء} [النور: 58] وبعد العشاء النوم.
هذه أوقات ثلاثة، لا ينبغي لأحد أن يدخل عليك فيها إلا بإذنك.
وانظر إلى هذا التحفّظ الذي يوفره لك ربك عز وجل حتى لا تُقيِّد حريتك في أمورك الشخصية ومسائلك الخاصة، وكأن هذه الأوقات مِلْكٌ لك أيها المؤمن تأخذ فيها راحتك وتتمتع بخصوصياتك، والاستئذان يعطيك الفرصة لتتهيأ لمقابلة المستأذن.